الأدب مع الطعام الحار ، والشراب الحار ، و حكم تناوله
أصل المقال سؤال، أرسله أحد الإخوة، ونصه:
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخنا حفظكم الله وأحسن الله اليك ويطول عمرك في فعل الخيرات كما يحب ربنا ويرضى. إنني طالب العلم قاطن في ... و لدي سؤال : في الحديث الصحيح جاء عن النبي صل الله عليه وسلم أنه كان يكرهُ شربَ الحميمِ.
فهل علينا نحن أن نطبق هذا، أن نكره شرب القهوة الحارة والشاي الحار . ونترك الاكل الحار .
أفيدونا مأجورين؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله.
فقد ورد الأمر بترك أكل الطعام حتى يبرد، وورد النهي عن الأكل من الطعام الحار، ولم أر ما يثبت في هذا، فمما ورد:
حديث عائشة: (بردوا طعامكم يبارك لكم فيه) وهو ضعيف جدًّا. الضعيفة (1654).
وحديث جابر: (أبردوا الطعام الحار فإنه غير ذي بركة) وهو ضعيف جدا فيه متروك أيضًا.
ومن حديث أنس: (عليكم بالبارد فإن الطعام الحار لا بركة فيه). وهو ضعيف جدا. انظر: الضعيفة (1587) (1598).
ومن حديث صهيب: (نهى عن أكل الطعام الحار حتى يسكن) وهو ضعيف جدا. الضعيفة (5230).
ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطعام يفور، فرفع يده، وقال: «اللهم لا تطعمنا نارا» وهو ضعيف. الإرواء (7/38).
وأما ما ثبت في هذا الباب ، فمنه:
- حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِثَرِيدٍ، أَمَرَتْ بِهِ فَغُطِّيَ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرةُ وَدُخَانُهُ، وَتَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُوَ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ». حديث حسن أخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد، وابن حبان والبيهقي وغيرهم. انظر الصحيحة (392) (659).
- حديث عقبة في المسند (28/ 639) قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ شُرْبَ الْحَمِيمِ .
وهو ضمن حديث، من طريق ابن لهيعة. ووقع فيه اختلاف، لكن يمكن تحسينه بالحديث السَّابق.
- وأخرج البيهقي في الكبرى (7/ 457): من طريق عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: (لا يؤكل طعام حتى يذهب بخاره). انظر: الإرواء (1978).
فقه المسألة:
كره الفقهاء من المذاهب الأربعة الأكل من الطعام الحار، وهو عندي محمول على الحار حرارة شديدة ، وعلى ما لم يذهب بخاره، كما تفيده عبارة بعضهم.
وفي حاشية ابن عابدين من مذهب الحنفية : «وَلَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ حَارًّا وَلَا يَشُمُّهُ».
الدر المختار (6/340)
وفي الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 1139) لابن عبدالبر من المالكية : «ويكره أكل الطعام الحار جدا إلا لمن لا يجد لناره مسًّا» انتهى.
وفي المدخل لابن الحاج (1/ 223) منهم أيضًا: «وينبغي أن لا يَستعجل على الأكل إذا كان الطعام سخنا لما ورد في الحديث» انتهى.
وفي مغني المحتاج (4/ 412) من كتب الشافعية: «ولا يأكله حارًّا حتى يبرد».
وفي الإنصاف للمرداوي من الحنابلة (21/ 366): «وقال الآمِدِى: لا يُكْرَهُ النَّفْخُ فى الطَّعامِ إذا كان حارًّا. قلتُ: وهو الصَّوابُ، إنْ كان ثَمَّ حاجَةٌ إلى الأكْلِ حِينَئذٍ. ويُكْرَهُ أَكْلُ الطَّعامِ الحارِّ. قلتُ: عندَ عدَمِ الحاجةِ. انتهى.
وانظر: شرح المنتهى (3/38) والروض مع حاشية ابن قاسم (6/ 422)
أقول والله الموفق للصواب:
فالسُّنّة: ترك الأكل من الطعام الحار جدا حتى يذهب بخاره، وتذهب فورته وغليانه. وشدة حرارته.
وإذا خُشي ضرره على الآكل بعِلْم أو ظنٍّ غالب فلا يبعُد التحريم كما جزم به المناوي في فيض القدير (1/ 77) حيث قال: «فيكره استعمال الحار لخلوه عن البركة ومخالفته للسنة بل إن غلب على ظنه ضرره: حرُم» انتهى.
ولكن لا يكره أكل الحار مطلقا، ولا شرب الحار مطلقا. بل الذي يفيده ما ثبت في هذا : أنه يجوز الأكل إذا صار الطعام بين الحرارة والبرودة كما في قوله: حتى يذهب بخاره.
ولا يُقال بكراهة أكل اللحم حارًا حرارةً يُمكن أكلُه معها، أو يُكره شُرب المرَق ونحوه حارًّا أو قُلْ دافئًا بحيث يُمكن ذلك، وأنَّ ذلك خلاف السُّنة!، فلا يمكن القول بهذا، بل ذلك خلاف ظاهر السنة فإنَّ الظاهر من الأدلة التي فيها أكل المطبوخ أنْ يؤكَل منه متى ذهب فوره بحيث يمكن الأكل منه.
ومن ذلك: حديث عتبان لما حبسُوا النبي صلى الله عليه وسلم على خزيرة صنعوها له. ولما نزل هو وأبو بكر وعمر على الأنصاري، وأيضًا قصة الحديبية، وأحاديث كثيرة ولم يرد ما يفيد تركه الطعام حتى يبرد تمامًا، ولا في قصِّة منها.
وأما الحار جدا، الذي يتصاعد بخاره، فمن الحكمة في كراهة أكله، وشربه:
- أنه أعظم للبركة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق.
- ومنها: أنَّ الآكل منه يأكل وهو مشغول بأذيَّة حرِّه فلا يَدري ما أكل. فيض القدير (3/120). وهكذا قل في المشروب من قهوة او شاي ونحوه.
- ومنها: أنَّ الذي يأكُل شديدَ الحرارة : يخرج -غالبًا- عن حدِّ الأدب في الأكل، والشرب، فربما تصدُر منه أصوات منافية لكمال أدب الأكل. وربما شرب شَرابًا حارًا فمنعَهُ من إتمام الأكل، ودمعَت عيناه، وأضحك القومَ عليه.
- - وربما احتاج إلى النفخ فيه، وقد كرهه بعضُ الفقهاء، وقيَّده بعضُهم في الحار: بمَن لم يكن له حاجة إليه. وقيَّده بعضُهم: بما إذا لم يأكل وحده.
قال في تحفة الأحوذي (6/ 10): «وكذا لا ينفخ في الإناء لتبريد الطعام الحار بل يصبر إلى أن يبرد». وقال المهلب: «ومحلّ هذا الحكم إذا أكل وشرب مع غيره وأما لو أكل وحده أو مع أهله أو من يَعلم أنه لا يتقذّر شيئًا مما يتناوله فلابأس.
قال الحافظ ابن حجر: والأولى تعميم المنع لأنه لا يُؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل التقذّر من الإناء أو نحو ذلك انتهى
قلت: بل هو المتعين عندي والله تعالى أعلم. انتهى من التحفة.
وقال الشوكاني في النيل: «وكذا لا يَنفخ في الإناء لتبريد الطعام الحار، بل يصبر إلى أنْ يبردَ كما تقدَّم، ولا يأكله حارًا فإن البركة تذهب منه، وهو شراب أهل النار». نيل الأوطار (8/ 221).
- وأيضًا: النفخ في الطعام الحار يدل على العجلة الدالة على الشَّرَه وعدم الصبر وقلة المروءة.
- ومنها: أنَّ الطعام الحار جدًّا لا يَستمرئه الآكل ولا يَلتذّ به، وقد يعسُر هضْمه.
قال العلامة ابن عثيمين: قوله: «وأكله حارًا» أي: يكره أكل الحار الشديد، والذي تتألم منه المعدة، والطعام يمر على ثلاثة أشياء: اليد، والفم، والمعدة، فاليد تحس بالحر أكثر؛ لأنها لم تتعود على الحار، فأحياناً يكون الطعام حارًّا في اليد، ويدخله الإنسان في فمه فما يتأثر، وبعض الناس إذا كان الطعام حاراً في الفم وتأثر به، أنزله بسرعة إلى المعدة، وهذا غلط؛ لأن هذا يوجب أن تنصهر المعدة ويحدث فيها قرحة، ولهذا أرى أن صاحب البيت إذا رأى أن الطعام حار، فإنه يصبر حتى يبرد، ثم يقدمه للضيوف؛ لئلا يضرهم وهم لا يشعرون. الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/ 369).
قلت: وفيه التنبيه على أمر مهم للمضيِّف، وأدب ينبغي مراعاته لئلا يُحرج الضيوف. ويمكن التنبيه بالكلام بأنه حار جدًّا لاسيما ما لا تظهر شدة حرارته من المائعات.
هذا ما تيسر جوابًا على السؤال، والله تعالى أعلم.